الفتاوىفتاوى الأسرة

جواز تحديد وتنظيم النسل

السؤال:

ما حكم تحديد النسل بأن ينجب بعض الأولاد ويكتفي بذلك؟.

الجواب:

أولا: تنظيم النسل: اتفق الفقهاء على مشروعية تنظيم النسل، بل هو مندوب؛ لما في تنظيم النسل من قوة للجنين واستراحة لأمه، وفترة لتربيته وتقويمه والقيام على شؤونه وحسن حفظه، والقيام بحق رعايته، ومعنى تنظيم النسل أن يباعد الأزواج بين الأحمال، كأن يكون بين الحمل والحمل سنتان فأكثر، وقد دلت أدلة كثيرة على استحباب هذا التنظيم منها قوله تعالى (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) [الأحقاف: 15] فأخبر تعالى إخبارا فيه معنى الطلب أن بين الحمل والحمل الآخر ثلاثون شهرا تشمل أقل مدة الحمل وهي 6 أشهر، وأكمل مدة الرضاع وهي 24 شهرا، وقد طبق صحابة رسول الله r هذا الهدي الالهي كما يظهر في صحيح البخاري من قول جابر: (كنا نعزل على عهد النبي r والقرآن ينزل).

ثانيا: قطع النسل: لا أعلم خلافا بين الفقهاء في حرمة الامتناع عن الإنجاب، كأن يتفق الزوجان دون وجود أي عائق صحي على عدم الإنجاب أصلاً، وهذا قطع للنسل وليس تنظيما ولا تحديدا، فإن كان هذا المنع بالطرق الطبيعية أو أخذ الأدوية غير الضارة فهو محرم، وإن كان معه منع مستقبلي لاحتمال الإنجاب كاستئصال الرحم فهو حرام مركب، فقد امتن الله علينا بالأولاد ونهانا عن قتلهم (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) [الأنعام: 151] (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) [الإسراء: 31].

فقطع النسل مخالف لأحد أهم مقاصد النكاح وهو الإنجاب، وفيه تعطيل للأرض الخصبة التي سماها الله حرثا (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم) [البقرة: 223] ففي قطع النكاح تعطيل للرحم الذي جعله الله مزرعة للأولاد، وتعطيل ما قصد الله إلى تفعيله محرم شرعا.

ثالثا: تحديد النسل: وقع خلاف بين الفقهاء في حكم تحديد النسل بمعنى الاكتفاء بولد واحد أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك ثم التوقف عن الإنجاب باستعمال أي وسيلة مشروعة تمنع حصول الحمل كالأدوية واللولب والواقي الذكري… فذهب جمهور العلماء إلى حرمة هذا التحديد، وبعضهم فرق بين التحديد من جهة شخصية أو أن تتبناه الدول…

والراجح الذي أراه أن تحديد النسل مباح لا حرمة فيه، فلا يوجد أي دليل شرعي يطلب من الإنسان الاستمرار في الإنجاب، بل ترك الشارع أمر الإنجاب للبشر؛ لأن داعي الطبع إلى الإنجاب أقوى من داعي الشرع، فالإنسان بطبعه ما جبل عليه من فطرة، وما أودع فيه من غيرة وتقليد غيره من بني جنسه وحب الولد يندفع تلقائيا إلى الإنجاب لرؤية الأحباب والتباهي بهم أمام الأصحاب، رغبة في تربية حَنُوْنٍ، فزينة الحياة الدنيا هم البنون (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الكهف: 46].

والإنجاب حق المرء فلا يصبح ما هو حق له واجباً عليه ما لم يؤد تركه إلى مفسدة ظاهرة ولم توجد، فجميع المباحات والمندوبات من الأمور الجبلية لا تجب على الإنسان، بل أمرها ومردها إليه، بل إن الزواج الذي هو أصل الإنجاب مندوب لا يجب إلا إن ترتب على تركه مفسدة فكذلك فرعه وهو الإنجاب، فلا يكون الفرع واجباً والأصل مندوبا.

ومن الأدلة الشرعية النصية على جواز تحديد النسل قوله r (تزوجوا الوَدُودَ الوَلُودَ فإني مكاثِرٌ بِكُمُ الأمم)”، (إني فَرَطُكُمْ على الحوض، وإني مُكَاثِرٌ بكم الأمم، فلا تَقْتَتِلُنَّ بعدي)،وهذا الحديث بألفاظه المختلفة يدل على جواز تحديد النسل من أوجه:

  • الاطلاق: ” تكثروا” فالتكثر أمر من الجذر “كثر” والتكثر يحصل بواحد فكان هو الواجب وما بعده مندوب، فالتزوج يحصل باقتران الرجل بالمرأة بالزواج، فيصبحان اثنين، وإنجاب طفل فيه تكثير للأسرة من اثنين إلى ثلاثة، وزيادة في عدد الأمة لو أنجبت كل أسرة طفلا فأكثر.

فالكثرة لغة نماء العدد، فالكاف والثاء والراء أصل صحيح يدل خلاف القلة. من ذلك الشيء الكثير، وقد كثر. ويقال: كاثر بنو فلان بني فلان فكثروهم، أي كانوا أكثر منهم، فزيادة الواحد (الولد) على الزوجين نماء، كما يتحقق كونهم أكثر منهم بزيادة واحد فقط، فدل على أن المراد مطلق الزيادة لا المبالغة بها.

  • العلة: الإنجاب معلل بنص قول النبي r بالمكاثرة، وليس العبرة بالمكاثرة بالعدد دون جودة، والكم دون كيف، فمراد النبي r أن نكثر من نسل الأمة كثرة تقية نقية عالمة عاملة مربية على أصول الشرع وفروعه، رافعة لراية الإسلام محققة لغايته، بدليل قوله r “أمام الأنبياء” في صحيح ابن حبان (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر الأنبياء يوم القيامة)، ولا تكون مكاثرة الأنبياء إلا بما بعثوا لأجله وهو هداية الناس أن يكونوا عبادا حقا لله تعالى.

ورب طفل واحد يحيي أمة ويكشف الله به الغمة، ورب من ينجب عشرا من الأبناء يكونون عالة على الأمة، مفسدين في الأرض، أو غثاء كغثاء السيل، وقد نص r صراحة على هذه العلة بما ثبت عنه في مسند أحمد (انْكحوا أُمَّهات الأولاد، فإني أباهي بهم يوم القيامة)، وفي رواية (تناكحوا، تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة) ، فلا أصرح من لفظ المباهاة في بيان علة الإنجاب، ولا تكون المباهاة إلا بالتقي من الصفوة وأهل الصحوة، لا بالعاصي ممن وقعوا في الهوة من أهل الغفلة.

ولا أظهر من قوله r في خطبة الوداع قال r (ألا وإن أموالكم ودماءكم عليكم حرام، كحرمة شهركم هذا، في بلدكم هذا، في يومكم هذا، ألا وإني فرطكم على الحوض، وأكاثر بكم الأمم، فلا تسودوا وجهي، ألا وإني مستنقذ أناسا، ومستنقذ مني أناس، فأقول: يا رب، أُصيحابي؟ فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، تنبه إلى قوله r ” فلا تسودوا وجهي” ولا شك أن في تكثير الأولاد غير الصالحين فيه تسويد لوجه الوالد والنبي r يوم القيامة أمام بقية الأنبياء، فيكون معنى الحديث لا تنجبوا أولاداً تسود بهم الوجوه يوم القيامة.

إذا العبرة بالقدرة على التربية والإعداد لا بكثرة الأعداد، فمن كان قادراً على تربية طفل واحد تربية إيمانية صحيحة على منهاج النبوة على كتابه تعالى وسنة نبيه كفاه، ومن كان قادراً على تربية عشرين ولداً فنعما به، ولا نريد غثاء كغثاء السيل، وإن الاهتمام بالكثرة على حساب النوع هو أحد أسباب انحطاط الأمة اليوم، ففي سنن أبي داود بإسناد حسن قال r (يوشِكُ الأُممُ أن تَداعَى عليكم كما تَداعَى الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها” فقال قائل: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: “بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغثاء السَّيلِ، ولَينْزِعَنَّ اللهُ مِن صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذفنَّ اللهُ في قلوبِكم الوَهْنَ”. فقال قائلٌ: يا رسُولَ الله، وما الوهنُ؟ قال: حبُّ الدُنيا وكراهيةُ الموتِ).

وأنبه إلى أن تحديد النسل يأخذ الأحكام التكليفية الخمسة، فقد يكون:

  • مباحا، وهو الأصل في حكمه كما بينت سابقا.
  • واجبا، كأن تمر الأمة أو الشخص في حالات كان لكثرة الإنجاب مفاسد عامة أو خاصة وأمر الإمام العدل به حلا لمعضلات اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية معينة.
  • مندوبا، إذا عرف المرء من نفسه أنه غير قادر على تربية أولاده تربية صالحة، وأنه كلما كثر أبناؤه ضعفت قدرته على التربية والتوجيه، وهو قادر على تربية عدد معين تربية صالحة، فيندب التحديد في حقه.
  • محرما، كما لو عانت الأمة من قلة عدد الرجال جراء الحروب أو الأوبئة أو كانت بحاجة للأعداد التي لا تحقق مصالح الأمة إلا بها.
  • مكروها، كمن أعطاه الله سعة في المال، وصحة في الجسم، ودقة في الفهم، وصلاحا في الهَمِّ، وتقوى وورعا فهو من أولي العزم، وهو قادر على تربية عدد كبير من الأبناء تربية إسلامية صحيحة، فهذا يكره تحديد النسل في حقه.

فنحن نريد القيادات لا المتكاسلين والمتكاسلات، القدوات لا الإمعات، القمم لا قاع الهرم (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) [النحل: 120]، نريد الرواحل لا المماحل (الناس كإبل مئة، لا تكاد تجد فيها راحلة)، فهنيئا لمن كثر إنجابه مع كثرة نجبائه، وكثرت ذراريه مع كثرة الخير فيه.

وأرى أن الخلاف في هذه المسألة هين؛ لأن الناس بطباعهم تميل إلى كثرة الأولاد، وتربية الأحباب، فلا يحتاجون إلى حضهم على الإنجاب؛ لأن الأنظار إلى الأطفال تُحف، وخبرهم يُزف، والعيون إليهم ترِف، فحبهم في القلب مرسوم، والاستزادة منهم في البشر مهموم، لا يحتاج إلى حث أو علوم…

 

مصدر الفتوى من كتاب:

فتاوى معاصرة (2)، ايمن عبد الحميد البدارين، دار النور المبين للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى، 2017م، صفحة (107-112 )


اكتشاف المزيد من موقع الدكتور ايمن البدارين الرسمي - aymanbadarin.com

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي من النسخ